عن الأقلام أكتب... وليس عن الكتب | أرشيف

غسّان كنفاني (1936 - 1972)

 

المصدر: «مجلّة الآداب».

الكاتب (ة): غسّان كنفاني.

زمن النشر: 1 تمّوز (يوليو)  1992.

 


 

أضمر حقدًا شرّيرًا على رجلين لا أعرفهما، لكنّهما يمثّلان بالنسبة لي أبشع أنواع اللصوصيّة؛ هذه اليد المزوّدة بأظافر النهب تحت قفّاز من حرير التهذيب، ووراء اليد والقفّاز توجد ذراع انعدام المسؤوليّة، وهذه الذراع هي ’الخيانة‘ بعينها.

الأوّل رجل يلبس قميصًا مخطّطًا ويضع نظّارة وشعره ميّال إلى الحمرة – مَنْ يجده يتّصل بالمخفر وله مكافأة قيّمة – التقيته في مطار بيروت، وكنّا على وشك أن نسافر كلّ إلى جهة، حين طلب بتهذيب لا مثيل له أن أعيره قلمي ليملأ بطاقة المغادرة. وأعطيته قلمي، بالطبع، شأن أيّ رجل متحضّر يلتقي رجلًا متحضّرًا في مطار ما، فلطشه!

أمّا الثاني فرجل يلبس قميصًا أبيض، التقيته في مكتب البرقيّات في بيروت عند منتصف الليل، وكنت ذاهبًا لأبعث برقيّة، فطلب منّي بتهذيب – لافت للنظر – أن أعيره قلمي ليكتب برقيّة. أعرته قلمي بعد محاضرة موجزة ألقيتها عليه، ملخّصها أنّني أضعت قلمًا قبل فترة عندما استعاره منّي رجل في المطار – في الحقيقة قلت له إنّني أضعت عشرة أقلام لأجعل القضيّة أكثر دراماتيكيّة وتأثيرًا – وقلت له إنّني أريد أن أستردّ قلمي، ثمّ نبّهته إلى أنّني لو نسيت، أو انشغلت، فعليه أن يذكّرني.

ثمّ أعطيته القلم، فلطشه!

وأنا رجل حسّاس جدًّا تجاه أقلام الحبر، بالرغم من أنّ أقلامي ليست غالية السعر تمامًا، إلّا أنّها تشكّل جزءًا من حياتي. حتّى ريشتها تتكيّف مع أصابعي بصورة حميمة، تعتادني وأعتادها ونشكّل معًا علاقة تشبه العلاقة الّتي تتشكّل بين أنف الرجل ونظّارته.

من حقّي طبعًا أن أحبّ قلمي، فهذه قضيّة لا تعارض أيّة قوانين وضعها الإنسان؛ بل إنّ امتلاك الإنسان لقلم حبر هو حقّ من حقوق الملكيّة لم تنل منه أكثر إجراءات الاشتراكيّين إمعانًا في التأميم. معنى ذلك أنّه حقّ مقدّس، يشبه حقّ احتفاظ الإنسان بمعدته الخاصّة.

لذلك، فقد كان لهاتين الحادثتين وقع الكارثة عليّ، وأشعرتاني بغضب حزين مهيض الجناح، شديد العجز؛ فمن ناحية أولى لا أستطيع أن أطارد السارق، ومن ناحية أخرى، لا تستحقّ المسألة برمّتها – في عرف الشرطة – أن أقدّم شكوى؛ فاللصوصيّة في القوانين هي جريمة تتعلّق بثمن الشيء وليس بقيمته، وسيكون من المضحك أن أشكو إلى الشرطة رجلًا مجهولًا ذهب إلى مكتب البرقيّات دون أن يصطحب معه قلمه، ليلطش قلمي، وثمنه عشر ليرات.

إنّه شيء يشبه أن يقوم بابلو نيرودا برفع دعوة على معين بسيسو، لأنّ الأخير لطش من الأوّل صورة شعريّة عن ’الأشجار الّتي تموت واقفة‘. من الطبيعيّ أنّ الشاب الّذي لطش قلمي في المطار قد نسي أن يرجعه إليّ، ووضعه في جيبه بحركة بريئة، وكذلك الرجل الّذي استعار قلمي في مكتب البرقيّات الليليّ في بيروت – كيف يذهب رجل إلى المطار بدون قلم، وكيف يجرؤ رجل ذاهب ليبعث برقيّة إلى مكتب البرقيّات أن يذهب دون قلم؟ إنّ رجال الشرطة مطالبون بأن يفتّشوا كلّ داخل إلى مكتب البريد، فإذا اكتشفوا أنّه لا يحمل قلمًا منعوه من الدخول – أقول، من الطبيعيّ أنّ عمليّات اللطش هذه لم تكن مقصودة تمامًا، رغم ذلك فيجب أن لا تفرّ من العقاب، لأنّ تصرّف قائد سلاح الجوّ العربيّ فجر 5 حزيران (يونيو) لم يكن مقصودًا تمامًا، مع ذلك فإنّه من المضحك أن نتركه يذهب إلى بيته، بالقلم الملطوش، لأنّه نسي إرجاعه إلى صاحبه.

الفارق بين قلم الشخص وبين السلاح الجوّيّ لدولة من الدول، ليس كبيرًا؛ فكما أنّ ضياع السلاح الجوّيّ يفقد الدولة المعنيّة غطاءها الجوّيّ، فإنّ ضياع قلم الحبر يفقد الشخص المعنيّ قدرته على الكتابة، حتّى إتمام إزالة آثار العدوان.

هكذا عدت من مكتب البرقيّات الليليّ دون قلم حبر، فقد شغلني الموظّف في جدل لا نهاية له حول عدد الكلمات وأسعارها وبرقيّة الدرجة الأولى والدرجة الثانية، ذلك المنطق الطبقيّ الّذي لا يمكن التخلّص منه، وانتهز الرجل المجهول الّذي استعار قلمي هذه الفرصة لينسى أنّه استعار القلم، وبالتالي لطشه دون أيّ وازع من ضمير.

إنّني أدعو الله أن يبتلي أولئك الّذين يعتقدون – حتّى الآن – أنّ هذا الموضوع تافه، بسرقة أقلامهم حين يكونون في أشدّ الحاجة إليها، كي يدركوا مدى جدّيّة هذه القضيّة.

فكّرت، حين وجدت أنّني دون قلم – المرّة الأولى في الطائرة، حيث لا توجد دكاكين لبيع أقلام الحبر كما هو معروف، وحيث يتعيّن على المسافر أن يملأ عشرات من الأوراق بالمعلومات؛ والمرّة الثانية عند منتصف الليل حيث لا يمكن شراء قلم حبر رغم أنّه كان عليّ أن أنجز مقالًا – فكّرت أنّني لو كنت مكان الرجل الّذي استفاد من فضيلة النسيان إلى هذا الحدّ، أكنت حملت القلم الملطوش إلى الدار، وقلت لزوجتي: "اسكتي يا مرا... لقد لطشنا قلمًا"؟ لا! على الأقلّ كنت سألت الموظّف المعنيّ عن عنوان صاحب القلم الّذي أرسل برقيّة قبلي، أو كنت تركت القلم عنده ليجده صاحبه حين يعود إليه ليسأل عنه.

على أيّ حال، كنت قد أحضرت قلمي معي قبل ذلك كلّه، إذ كنت سأبدو مضحكًا جدًّا لو أنّني جئت إلى مكتب البرقيّات دون قلم، مثل بطل سباحة ذاهب إلى مكسيكو دون مايوه! هذا بالذّات ما أسمّيه "كفّ اللصّ داخل قفّاز التهذيب الحريريّ"، وهو أبشع من كفّ اللصّ العارية بما لا يقارن.

أعترف الآن أنّ غضبًا شديدًا انتبابني في الحالتين، حين اكتشفت بيني وبين نفسي أنّ هذين الدرسين لن يمنعاني في المستقبل من إعارة قلمي إلى مَنْ يطلبه، ولن يمنعاه من أنْ يلطشه، ازداد غضبي إلى حدّ لا يطاق.

فلو أنّني، في المستقبل، رفضت إعارة قلمي إلى شخص يطلبه بحجّة أنّ زميلًا له لا يعرفه قد استعار في الماضي قلمي وسرقه – بالنسيان أو بالعمد، سيّان – لما كان بوسعه أن يفهم، ولا أن يغفر، وعليّ أن أتحمّل نظرة الاحتقار والاتّهام بالعجز عن مساعدة الآخرين.

وأنا أعرف أنّني سأظلّ أعير قلمي، وسيظلّ المستعير يلطشه...

كلّ سلواني هو أن يقرأ الرجل الّذي استعار قلمي في المطار هذا الكلام، وكذلك الرجل الّذي استعاره في مكتب البرقيّات، وأن يشعرا بينهما وبين نفسيهما بالخجل والعار، وبعد ذلك ليحتفظا بالقلمين.

هذان القلمان، أيّها السادة، كتبا رسائل غرام، وسطّرا على هذه الصفحة زبدة الشتائم الأدبيّة المعروفة في هذا البلد، ووقّعا على ذيول عشرات من الكمبيالات والسندات، وقد استعملتهما أحيانًا، كما يفعل أيّ شخص آخر، أداة عضّ حين تعاندني الفكرة. أي أنّهما جزء من حياتي، مع ذلك، فبوسعكما الاحتفاظ بهما، علّهما يلسعانكما بالذنب كلّما حاولتما أن تكتبا بهما بطاقة خروج أو برقيّة؛ فالقلم مثل القتيل، يخرج من ريشته حين يلطشه غراب أسود يظلّ ينعق، اسقوني، اسقوني، حتّى يؤخذ بثأره، أو ربّما تتعطّل ريشته، فينضح في قميصيكما حبره الّذي لا يغسل بالماء.

 

* تُنْشَر هذه المقالة ضمن ملفّ خاصّ لمناسبة مرور خمسين عامًا على اغتيال الشهيد غسّان كنفاني على يد الاستعمار الإسرائيليّ، تُنْشَر موادّه على مدار شهر تّموز (يوليو) 2022.

 


 

عَمار: رحلة تُقدّمها فُسُحَة - ثقافيّة فلسطينيّة لقرّائها، للوقوف على الحياة الثقافيّة والإبداعيّة والاجتماعيّة الّتي شهدتها فلسطين في تاريخها المعاصر، من خلال الصحف والمجلّات والنشرات المتوفّرة في مختلف الأرشيفات.